فصل: فصـل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـل

واختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين، لا يبَايعُون ولا يشَارون؛ وصبيانهم يتَضَاغُون من الجوع، قد هجرهم وقَلاهُم قومهم، وغير قومهم‏.‏ هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام‏.‏

فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك، وأن يقول على اللّه غير الحق‏.‏ يقول‏:‏ ما أرسلني ولا نهي عن الشرك، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73 ـ 77‏]‏‏.‏

وكان كذب هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا‏:‏إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه/مُفْتَر‏.‏ وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد‏.‏ فإن يوسف كذب عليه في أنه زني، وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف‏.‏

وكذلك الكذب على أولي العزم، مثل نوح وموسي، حيث يقال عن الواحد منهم‏:‏ إنه مجنون، وإنه كَذَّاب، يكذب على اللّه، وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس، فإن يوسف حُبِسَ وسُكِت عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة‏.‏

وهذا معنى الحبس، فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن، بل المراد منعه من التصرف المعتاد‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له حبس، ولا لأبي بكر، بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسَلِّمُ الغريم إلى غريمه، ويقول‏:‏ ‏(‏ما فعل أسيرك‏؟‏‏)‏، فيجعله أسيراً معه، حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس‏.‏

والصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم، حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة، فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم، والباقون / أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ أيضاً ـ مع ما آذوهم به، حتى قتلوا بعضهم، وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه، ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رَمْضَاء ‏[‏الرَّمْضَاء‏:‏ الحجارة الحامية من حر الشمس‏]‏ مكة، إلى غير ذلك من أنواع الأذي‏.‏

وكذلك المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يختار الأذى في طاعة اللّه على الإكرام مع معصيته، كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده، على أن يقول على اللّه غير الحق في كلامه، وعلى أن يقول ما لا يعلم ـ أيضاً ـ فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو باطل، وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير، فيقول لهم الإمام أحمد‏:‏ ما أدري ما هذا‏؟‏ فلم يوافقهم على أن يقول على اللّه غير الحق، ولا على أن يقول على اللّه ما لا يعلم‏.‏

 ‏(‏وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ بعد كلام‏)‏ ‏[‏هكذا بالأصل‏]‏ ‏[‏ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن تيمية ؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة 5/83، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد الجليند جاء النص هكذا‏:‏ ‏(‏قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏ ثم إن يوسف‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ انظر‏:‏ 3/274‏.‏وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل‏:‏ ‏(‏ الوجه السادس ‏)‏ ينبئ بوجود سقط من الأصل‏]‏

‏[‏يهم أحدهم‏]‏ بالذنب فيذكر مقامه بين يدي اللّه فيدعه، فكان يوسف ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى‏.‏

ثم إن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان شابا عزبًا أسيرا في بلاد العدو، حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء، فيستحي منهم إذا فعل فاحشة، فإن كثيراً من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرفه، فإذا تغرب فعل ما يشتهيه، وكان ـ أيضاً ـ خاليا لا يخاف مخلوقا، فحكم النفس الأمارة ـ لو كانت نفسه كذلك ـ أن يكون هو المتعرض لها، بل يكون هو المتحيل عليها، كما جرت به عادة كثير ممن له غرض في نساء الأكابر إن لم يتمكن من الدعوة ابتداء‏.‏ فأما إذا دعي ولو كانت الداعية خدامة؛ لكان أسرع مجيب، فكيف إذا كانت الداعية سيدته الحاكمة عليه، التي يخاف الضرر بمخالفتها ‏؟‏‏!‏

ثم إن زوجها ـ الذي عادته أن يزجر المرأة ـ لم يعاقبها، بل أمر / يوسف بالإعراض، كما ينْعَرُ الديوث، ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته، وهو يقول‏:‏ ‏{‏رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته، وأنه مع توفرها وقوتها، ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك، ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور، وأن تقواه وصبره عن المعصية ـ حتى لا يفعلها مع ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم ـ كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات، وإن نفس يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانت من أزكى الأنفس، فكيف أن يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏53‏]‏ واللّه يعلم أن نفسه بريئة ليست أمَّارة بالسوء، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء، والهَمُّ الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه للّه لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏52‏]‏، إذا كان معناه ـ على ما زعموه‏:‏ أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته ـ على قول أكثرهم، أو ليعلم الملك أو ليعلم اللّه لم يكن هنا ما يشار إليه، فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه،ولا تقدم / ـ أيضاً ـ ذكر عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏51‏]‏، وقول امرأة العزيز‏:‏‏{‏أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏51‏]‏، وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا، ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو‏.‏

فقول القائل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ من قول يوسف ـ مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل ـ لا يصح بحال‏.‏

الوجه السابع‏:‏ أن المعنى على هذا التقدير ـ لو كان هنا ما يشار إليه من قول يوسف أو عمله ـ‏:‏ إن عفتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيز أني لم أخنه، ويوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما تركها خوفا من اللّه، ورجاء لثوابه، ولعلمه بأن اللّه يراه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏24‏]‏، فأخبر أنه رأي برهان ربه، وأنه من عباده المخلصين‏.‏

ومن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه، ولم يكن بذلك مخلصاً؛ فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحاد الناس لم يكن له ثواب من اللّه، بل يكون ثوابه على من عمل لأجله‏.‏

/فإن قيل‏:‏ فقد قال يوسف أولا‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏23‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ إن كان مراده بذلك سيده، فالمعنى‏:‏ أنه أحسن إلي، وأكرمني، فلا يحل لي أن أخونه في أهله، فإني أكون ظالما ولا يفلح الظالم، فترك خيانته في أهله خوفا من اللّه لا ليعلم هو بذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ مراده تأتي إظهار براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، فالمعلل إظهار براءته لا نفس عفافه‏.‏

قيل‏:‏ لم يكن مراده بإظهار براءته مجرد علم واحد، بل مراده علم الملك وغيره؛ ولهذا قال للرسول‏:‏ ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏50‏]‏، ولو كان هذا من قول يوسف لقال‏:‏ ذلك ليعلموا أني بريء وأني مظلوم‏.‏

ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته، وحصل مطلوبه، فلا يحتاج أن يقول ذلك لتحصيل ذلك، وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته، فلا يحتاج مثل هذا أن ينطق به‏.‏

/ الوجه الثامن‏:‏ أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو كان العزيز غيوراً، وللعفة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهر عنه من قلة الغيرة وتمكين امرأته من حبسه مع الظالمين مع ظهور براءته؛ ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا‏:‏ هذا لم يعرف قدر إحساني إليه، وصوني لأهله،وكف نفسي عن ذلك، بل سلِّطها ومكِّنها‏.‏

فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة، إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته، ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل للّه خائفاً منه، وراجياً لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله‏.‏

الوجه التاسع‏:‏ أن الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب؛ ولهذا يقال‏:‏ الصادق الأمين، ويقال‏:‏ الكاذب الخائن‏.‏ وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت‏:‏ راودني؛ لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي المراودة،كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها‏.‏

/ فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة، ولكن هو باب الظلم والسوء والفحشاء، كما وصفها اللّه بذلك في قوله تعإلى عن يوسف‏:‏ ‏{‏مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏ ولم يقل هنا‏:‏ الخائنين، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏، ولم يقل‏:‏ لنصرف عنه الخيانة؛ فليتدبر اللبيب هذه الدقائق في كتاب اللّه تعإلى‏.‏

الوجه العاشر‏:‏ أن في الكلام المحكي الذي أقره اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ

رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏53‏]‏، وهذا يدل على أنه ليس كل نفس أمارة بالسوء، بل ما رحم ربي ليس فيه النفس الأمارة بالسوء‏.‏

وقد ذكر طائفة من الناس أن النفس لها ثلاثة أحوال‏:‏ تكون أمارة بالسوء، ثم تكون لوامة، أي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، أو تتلوم فتتردد بين الذنب والتوبة، ثم تصير مطمئنة‏.‏

والمقصود هنا أن ما رحم ربي من النفوس ليست بأمارة ، وإذا كانت النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة ، فقد علمنا قطعاً أن نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء ؛ لأنها أمرت بذلك مرة بعد مرة ، وراودت وافترت، واستعانت بالنسوة وسجنت ، وهذا من / أعظم ما يكون من الأمر بالسوء‏.‏

وأما يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإن لم تكن نفسه من النفوس المرحومة عن أن تكون أمَّارَة فما في الأنفس مرحوم؛ فإن من تدبر قصة يوسف علم أن الذي رحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون، ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة، وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي، أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف‏.‏ وعلى هذا التقدير‏:‏ فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة، فما في النفوس مرحومة، فإذاً كل النفوس أمارة بالسوء، وهو خلاف ما في القرآن‏.‏

ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار‏[‏هو أبو عبد الله مسلم بن يسار البصري مولي بني أمية، فقيه ناسك من رجال الحديث، لا يفضل عليه أحد في زمانه، قال ابن سعد‏:‏ ‏(‏كان ثقة فاضلاً عابدًا ورعًا‏)‏، توفي سنة 100 هـ‏]‏‏:‏ أن أعرابية دعته إلى نفسها، وهما في البادية؛ فامتنع وبكي، وجاء أخوه وهو يبكي فبكي وبكت المرأة، وذهبت فنام فرأي يوسف في منامه، وقال‏:‏ أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم، فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان أكمل‏.‏ وهذا جهل لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن مسلما لم يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم، ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه، وتستعين بالنسوة / وتحبسه، وزوجها لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة، بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة، ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه‏.‏ وأين هذا مما ابتلي به يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ‏؟‏‏!‏

الثاني‏:‏ أن الهم من يوسف لما تركه للّه كان له به حسنة، ولا نقص عليه‏.‏ وثبت في الصحيحين من حديث السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ ‏(‏رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال‏:‏ إني أخاف اللّه رب العالمين‏)‏ وهذا لمجرد الدعوة، فكيف بالمراودة والاستعانة والحبس‏؟‏

ومعلوم أنها كانت ذات منصب، وقد ذُكِرَ أنها كانت ذات جمال وهذا هو الظاهر، فإن امرأة عزيز مصر يشبه أن تكون جميلة، وأما البدوية الداعية لمسلم فلا ريب أنها دون ذلك، ورؤياه في المنام وقوله‏:‏ أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم؛ غايته أن يكون بمنزلة أن يقول ذلك له يوسف في اليقظة، وإذا قال هذا، كان هذا خيراً له ومدحاً وثناء، وتواضعا من يوسف، وإذا تواضع الكبير مع من دونه لم تسقط منزلته‏.‏

الوجه الحادي عشر‏:‏ أن هذا الكلام فيه ـ مع الاعتراف / بالذنب ـ الاعتذار بذكر سببه، فإن قولها‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، فيه اعتراف بالذنب، وقولها‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏53‏]‏، إشارة تطابق لقولها‏:‏‏{‏أَنَاْ رَاوَدتُّهُ‏}‏ أي‏:‏ أنا مقرة بالذنب ما أنا مبرئة لنفسي‏.‏ ثم بينت السبب فقالت‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ‏}‏‏.‏ فنفسي من هذا الباب، فلا ينكر صدور هذا مني‏.‏ ثم ذكرت ما يقتضي طلب المغفرة والرحمة، فقالت‏:‏‏{‏إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا كلام من يقر بأن الزنا ذنب، وأن اللّه قد يغفر لصاحبه‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏ والقرآن قد دل على ذلك، حيث قال زوجها‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏29‏]‏، فأمره لها بالاستغفار لذنبها دليل أنهم كانوا يرون ذلك ذنباً ويستغفرون منه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، فقد كانت العرب مشركين وهم يحرمون الفواحش، ويستغفرون اللّه منها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع هند بنت عتبة بن ربيعة بيعة النساء على ألا تشرك باللّه شيئًا، ولا تسرق ولا تزني‏.‏ قالت‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏ وكان الزنا معروفًا عندهم في الإماء‏.‏

ولهذا غلب على لغتهم أن يجعلوا الحرية في مقابلة الرق، وأصل / اللفظ هو العفة، ولكن العفة عادة من ليست أمة، بل قد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي، أنه رأى في الجاهلية قرداً يزنى بقردة، فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته‏.‏

وقد حدثني بعض الشيوخ الصادقين، أنه رأي في جامع نوعًا من الطير قد باض، فأخذ الناس بيضه، وجاء ببيض جنس آخر من الطير، فلما انفقس البيض خرجت الفراخ من غير الجنس، فجعل الذكر يطلب جنسه، حتى اجتمع منهن عدد فما زالوا بالأنثي حتى قتلوها، ومثل هذا معروف في عادة البهائم‏.‏

والفواحش مما اتفق أهل الأرض على استقباحها وكراهتها، وأولئك القوم كانوا يقرون بالصانع مع شركهم؛ ولهذا قال لهم يوسف‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39، 40‏]‏‏.‏

الوجه الثاني عشر‏:‏ أن يقال‏:‏ إن اللّه ـ سبحانه وتعإلى ـ لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين‏:‏ إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما / أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها؛ لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول المعجزة‏.‏

وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك، ولكن المقصود هنا أن اللّه لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، كما ذكر في قصة آدم وموسي، وداود وغيرهم من الأنبياء‏.‏

وبهذا يجيب من ينصر قول الجمهور الذين يقولون بالعصمة من الإقرار على من ينفي الذنوب مطلقاً، فإن هؤلاء من أعظم حججهم ما اعتمده القاضي عياض وغيره، حيث قالوا‏:‏ نحن مأمورون بالتأسي بهم في الأفعال، وتجويز ذلك يقدح في التأسي؛ فأجيبوا بأن التأسي إنما هو فيما أقروا عليه، كما أن النسخ جائز فيما يبلغونه من الأمر والنهي، وليس تجويز ذلك مانعاً من وجوب الطاعة؛ لأن الطاعة تجب فيما لم ينسخ، فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل، والأصل عدم كل منهما‏.‏

ويوسف ـ عليـه الصـلاة والسـلام ـ لم يذكر اللّه ـ تعإلى ـ عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه،أو يستغفر منه أصلا‏.‏وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع/منه بعض مقدماتهـا،مثــل ما يذكــرون أنه حل السراويل، وقعد منها مقعد الخاتـن ونحو هـذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم،ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب، وقد عُرِفَ كلام اليهود في الأنبياء وغَضِّهِم منهم،كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه‏.‏

والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوي والصبر في هذه القضية؛ ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب؛ لكان إما مُصِرا وإما تائباً، والإصرار ممتنع، فتعين أن يكون تائباً‏.‏ واللّه لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفاراً، كما ذُكِرَ عن غيره من الأنبياء، فدل ذلك على أن ما فعله يوسف كان من الحسنات المبرورة، والمساعي المشكورة،كما أخبر اللّه عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏‏.‏

واذا كان الأمر في يوسف كذلك، كان ما ذكر من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ‏}‏، إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فِرْيةُ على الكتاب والرسول، وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه / الاغتياب لنبي كريم، وقول الباطل فيـه بـلا دليـل، ونسـبته إلى مـا نزهـه اللّه منه، وغير مستبعد أن يكون أصل هذا مـن اليهود أهـل البُهْتِ ‏[‏البُهْتُ‏:‏ الكذب والافتراء‏]‏، الذين كـانوا يرمون موسي بما برأه اللّه منـه، فكيف بغيره مـن الأنبياء‏؟‏ وقد تلقي نقلهم مـن أحسـن بـه الظـن، وجعـل تفسير القـرآن تابعاً لهذا الاعتقاد‏.‏

واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب اللّه من بعض الوجوه‏:‏ قوم أفرطوا في دعوي امتناع الذنوب، حتى حَرَّفُوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب،ومغفرة اللّه لهم، ورفع درجاتهم بذلك، وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوباً وعيوباً نزههم اللّه عنها‏.‏ وهؤلاء مخالفون للقرآن، وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من الأمة الوسط، مهتديا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون‏)‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حَذْو القَذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، اليهود والنصاري ‏؟‏ / قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏، وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح‏:‏ ‏(‏لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعًا بذراع‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن الناس إلا هؤلاء ‏؟‏‏)‏‏.‏

ولا ريب أنه صار عند كثير من الناس من علم أهل الكتاب ومن فارس والروم، ما أدخلوه في علم المسلمين ودينهم وهم لا يشعرون، كما دخل كثير من أقوال المشركين من أهل الهند واليونان وغيرهم، والمجوس والفرس والصابئين من اليونان وغيرهم في كثير من المتأخرين؛ لا سيما في جنس المتفلسفة والمتكلمة‏.‏

ودخل كثير من أقوال أهل الكتاب اليهود والنصاري في طائفة هم أمثل من هؤلاء، إذ أهل الكتاب كانوا خيراً من غيرهم‏.‏

ولما فتح المسلمون البلاد كانت الشام ومصر ونحوهما مملوءة من أهل الكتاب، النصاري واليهود، فكانوا يحدثونهم عن أهل الكتاب بما بعضه حق وبعضه باطل؛ فكان من أكثرهم حديثا عن أهل الكتاب كعب الأحبار‏.‏ وقد قال معاوية ـ رضي اللّه عنه‏:‏ ما رأينا في هؤلاء الذين يحدثونا عن أهل الكتاب أصدق مـن كعب، وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحياناً‏.‏

ومعلوم أن عامة ما عند كعب أن ينقل ما وجده في كتبهم، ولو / نقل ناقل ما وجده في الكتب عن نبينا صلى الله عليه وسلم لكان فيه كذب كثير، فكيف بما في كتب أهل الكتاب مع طول المدة، وتبديل الدين، وتفرق أهله، وكثرة أهل الباطل فيه‏.‏

وهذا باب ينبغي للمسلم أن يعتني به، وينظر ما كان عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، الذين هم أعلم الناس بما جاء به، وأعلم الناس بما يخالف ذلك من دين أهل الكتاب والمشركين والمجوس والصابئين‏.‏ فإن هذا أصل عظيم‏.‏

ولهذا قال الأئمة ـ كأحمد بن حنبل وغيره‏:‏ أصول السنة هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن تأمل هذا الباب وجد كثيراً من البدع أحدثت بآثار أصلها عنهم، مثل ما يروي في فضائل بقاع في الشام، من الجبال والغيران، ومقامات الأنبياء ونحو ذلك‏.‏ مثل ما يذكر في جبل قاسيون، ومقامات الأنبياء التي فيه، وما في إتيان ذلك من الفضيلة حتى إن بعض المفترين من الشيوخ جعل زيارة مغارة فيه ثلاث مرات تعدل حجة، ويسمونها مقامات الأنبياء‏.‏

والآثار التي تروي في ذلك لا تصل إلى الصحابة ، وإنما هي عمن / دونهم ممن أخذها عن أهل الكتاب ، وإلا فلو كان لهذا أصل؛ لكان هذا عند أكابر الصحابة الذين قدموا الشام،مثل بلال بن رباح، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، بل ومثل أبي عبيدة بن الجراح ـ أمين الأمة ـ وأمثالهم‏.‏ فقد دخل الشام من أكابر الصحابة أفضل ممن دخل بقية الأمصار غير الحجاز، فلم ينقل عن أحد منهم اتباع شيء من آثار الأنبياء، لا مقابرهم ولا مقاماتهم، فلم يتخذوها مساجد ، ولا كانوا يتحرون الصلاة فيها، والدعاء عندها، بل قد ثبت عـن عمر بن الخطاب ـ رضـي اللّه عنه ـ أنه كان في سفر، فرأي قوماً ينتابون مكاناً يصلون فيه ،فقال‏:‏ ما هذا ‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا مكان صلى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ ومكان صلى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد‏؟‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فليمض‏.‏

ولما دخل بيت المقدس وأراد أن يبني مصلى المسلمين، قال لكعب‏:‏ أين أبنيه‏؟‏ قال‏:‏ ابنه خلف الصخرة، قال‏:‏ خالطتك يهودية يابن اليهودية، بل أبنيه أمامها؛ ولهذا كان عبد اللّه ابن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قِبْلَيهِ، ولم يذهب إلى الصخرة‏.‏

وكانوا يكذبون ما ينقله كعب‏:‏ إن اللّه قال لها‏:‏ أنت عرشي الأدني،ويقولون‏:‏من وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون/الصخرة عرشه الأدني‏؟‏‏!‏ولم تكن الصحابة يعظمونها، وقالوا‏:‏إنما بني القُبَّة عليها عبد الملك بن مروان لما كان محاربا لابن الزبير،وكان الناس يذهبون إلى الحج فيجتمعون به عظم الصخرة؛ ليشتغلوا بزيارتها عن جهة ابن الزبير، وإلا فلا موجب في شريعتنا لتعظيم الصخرة،وبناء القُبَّة عليها وسترها بالأنطاع والجوخ‏.‏ولو كان هذا من شريعتنا؛لكان عمر وعثمان ومعاوية ـ رضي اللّه عنهم ـ أحق بذلك ممن بعدهم؛فـإن هـؤلاء أصحاب رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم،وأعلم بسنته،وأتبع لها ممن بعدهم‏.‏

وكذلك الصحابة لم يكونوا ينتابون قبر الخليل صلى الله عليه وسلم، بل ولا فتحوه، بل ولا بنوا على قبر أحد من الأنبياء مسجداً؛ فإنهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

ولما ظهر قبر دانيال بتُسْتَر كتب فيه أبو موسي إلى عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ فكتب إليه عمر، إذا كان بالنهار فاحفر ثلاثة عشر قبراً،ثم ادفنه بالليل في واحد منها، وعفِّر قبره لئلا يفتتن به الناس،وقد تأملت الآثار التي تروي في قصد هذه المقامات، والدعاء /عندها أو الصلاة،فلم أجد لها عن الصحابة أصلا، بل أصلها عمن أخذَ عن أهل الكتاب‏.‏

فمن أصول الإسلام أن تميز ما بعث اللّه به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب‏.‏ فإن اللّه ـ سبحانه ـ أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك‏)‏، وقال عبد اللّه بن مسعود ـ رضي اللّه عنه‏:‏ خط لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا سبيل اللّه، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

وجماع ذلك بحفظ أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ تحقيق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يخلط بما ليس منه من المنقولات الضعيفة، والتفسيرات الباطلة، بل يعطي حقه من معرفة نقله، ودلالته‏.‏

/ والثاني‏:‏ ألا يعارض ذلك بالشبهات لا رأياً ولا رواية‏.‏ قال اللّه تعإلى ـ فيما يأمر به بني إسرائيل، وهو عبرة لنا‏:‏ ‏{‏وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏41، 42‏]‏، فلا يكتم الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يلبس بغيره من الباطل، ولا يعارض بغيره‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏‏.‏

وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم أعداء الرسل، فإن أحدهم إذا أتي بما يخالفه، إما أن يقول‏:‏ إن اللّه أنزله على فيكون قد افتري على اللّه، أو يقول‏:‏ أوحي إليه ولم يسم من أوحاه، أو يقول‏:‏ أنا أنشأته، وأنا أنزل مثل ما أنزل اللّه، فإما أن يضيفه إلى اللّه أو إلى نفسه، أو لا يضيفه إلى أحد‏.‏

وهذه الأقسام الثلاثة هم من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏30، 31‏]‏، واللّه أعلم، والحمد للّه‏.‏